سورة النحل - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


قوله: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً} قد قدّمنا أن ضرب مضمن معنى جعل، حتى تكون {قرية} المفعول الأوّل و{مثلاً} المفعول الثاني، وإنما تأخرت {قرية} لئلا يقع الفصل بينها وبين صفاتها. وقدّمنا أيضاً أنه يجوز أن يكون {ضرب} على بابه غير مضمن، ويكون {مثلاً} مفعوله الأوّل وقرية بدلاً منه.
وقد اختلف المفسرون هل المراد بهذه القرية قرية معينة، أو المراد قرية غير معينة؟ بل كل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة؟ فذهب الأكثر إلى الأول وصرحوا بأنها مكة، وذلك لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللّهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف»، فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام، والثاني: أرجح، لأن تنكير قرية يفيد ذلك، ومكة تدخل في هذا العموم البدليّ دخولاً أوّلياً. وأيضاً يكون الوعيد أبلغ، والمثل أكمل، وغير مكة مثلها. وعلى فرض إرادتها، ففي المثل إنذار لغيرها من مثل عاقبتها.
ثم وصف القرية بأنها {كَانَتْ ءامِنَةً} غير خائفة {مُّطْمَئِنَّةً} غير منزعجة، أي: لا يخاف أهلها ولا ينزعجون {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} أي: ما يرتزق به أهلها {رَغَدًا} واسعاً {مّن كُلّ مَكَانٍ} من الأمكنة التي يجلب ما فيها إليها {فَكَفَرَتْ} أي: كفر أهلها {بِأَنْعُمِ الله} التي أنعم بها عليهم، والأنعم: جمع نعمة كالأشدّ جمع شدّة. وقيل: جمع نعمى مثل بؤسى وأبؤس. وهذا الكفر منهم هو كفرهم بالله سبحانه وتكذيب رسله {فَأَذَاقَهَا الله} أي: أذاق أهلها {لِبَاسَ الجوع والخوف} سمي ذلك لباساً لأنه يظهر به عليهم من الهزال، وشحوبة اللون، وسوء الحال، ما هو كاللباس، فاستعير له اسمه، وأوقع عليه الإذاقة، وأصلها الذوق بالفم. ثم استعيرت لمطلق الاتصال مع إنبائها بشدّة الإصابة لما فيها من اجتماع الإدراكين: إدراك اللمس، والذوق.
روي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي- إمام اللغة والأدب- هل يذاق اللباس؟ فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناس، هب أن محمداً ما كان نبياً أما كان عربياً؟ كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال: فكساها الله لباس الجوع، أو فأذاقها الله طعم الجوع، فرد عليه ابن الأعرابي.
وقد أجاب علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف، لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس، ثم ذكر الوصف ملائماً للمستعار له، وهو الجوع والخوف؛ لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة، فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه غيره، فكانت الاستعارة مجرّدة. ولو قال: فكساها كانت مرشحة. قيل: وترشيح الاستعارة، وإن كان مستحسناً من جهة المبالغة، إلاّ أن للتجريد ترجيحاً من حيث أنه روعي جانب المستعار له، فازداد الكلام وضوحاً.
وقيل: إن أصل الذوق بالفم، ثم قد يستعار، فيوضع موضع التعرف والاختبار. ومن ذلك قول الشاعر:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها *** وسيق إلينا عذبها وعذابها
وقرأ حفص بن غياث ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو عمرو فيما روى عنه عبد الوارث بنصب الخوف عطفاً على لباس، وقرأ الباقون بالضم عطفاً على الجوع، قال الفراء: كل الصفات أجريت على القرية إلاّ قوله: {يَصْنَعُونَ} تنبيهاً على أن المراد في الحقيقة أهلها.
{وَلَقَدْ جَاءهُمْ} يعني: أهل مكة {رَسُولٌ مّنْهُمْ} من جنسهم يعرفونه ويعرفون نسبه، فأمرهم بما فيه نفعهم ونهاهم عما فيه ضرهم {فَكَذَّبُوهُ} فيما جاء به {فَأَخَذَهُمُ العذاب} النازل بهم من الله سبحانه، والحال أنهم في حال أخذ العذاب لهم {ظالمون} لأنفسهم بإيقاعها في العذاب الأبديّ، ولغيرهم بالإضرار بهم وصدّهم عن سبيل الله، وهذا الكلام من تمام المثل المضروب. وقيل: إن المراد بالعذاب هنا هو الجوع الذي أصابهم، وقيل: القتل يوم بدر.
ثم لما وعظهم الله سبحانه بما ذكروه من حال أهل القرية المذكورة، أمرهم أن يأكلوا مما رزقهم الله من الغنائم ونحوها، وجاء بالفاء للإشعار بأن ذلك متسبب عن ترك الكفر. والمعنى: أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر، فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة، واتركوا الخبائث وهو الميتة والدم {واشكروا نِعْمَتَ الله} التي أنعم بها عليكم واعرفوا حقها {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ولا تعبدون غيره، أو إن صحّ زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة التي زعمتم عبادة الله تعالى. وقيل: إن الفاء في {فكلوا} داخلة على الأمر بالشكر، وإنما أدخلت على الأمر بالأكل، لأن الأكل ذريعة إلى الشكر.
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} كرّر سبحانه ذكر هذه المحرمات في البقرة والمائدة والأنعام، وفي هذه السورة قطعاً للأعذار، وإزالة للشبهة، ثم ذكر الرخصة في تناول شيء مما ذكر فقال: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقد تقدّم الكلام على جميع ما هو مذكور هنا مستوفى. ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة، وفي النقصان عنها كتحليل الميتة والدّم، فقال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب} قال الكسائي، والزجاج: {ما} هنا مصدرية. وانتصاب الكذب ب {لا تقولوا} أي: لا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم، ومعناه: لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة، ويجوز أن تكون {ما} موصولة، والكذب منتصب ب {تصف} أي: لا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه {هذا حلال وهذا حَرَامٌ} فحذف لفظة فيه لكونه معلوماً، فيكون قوله: {هذا حلال وهذا حرام} بدلاً من الكذب، ويجوز أن يكون في الكلام حذف بتقدير القول: أي ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم، فتقول: هذا حلال وهذا حرام، أو قائلة: هذا حلال وهذا حرام، ويجوز أن ينتصب الكذب أيضاً ب {تصف} وتكون {ما} مصدرية، أي: لا تقولوا: هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب.
وقرئ: {الكذب} بضم الكاف والذال والباء على أنه نعت للألسنة، وقرأ الحسن بفتح الكاف وكسر الذال والباء نعتاً ل {ما}. وقيل: على البدل من {ما} أي: ولا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام، واللام في {لّتَفْتَرُواْ على الله الكذب} هي لام العاقبة، لا لام العرض، أي: فيتعقب ذلك افتراؤكم على الله الكذب بالتحليل والتحريم، وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} أي افتراء كان {لاَ يُفْلِحُونَ} بنوع من أنواع الفلاح، وهو الفوز بالمطلوب، وارتفاع {متاع قَلِيلٌ} على أنه خبر مبتدأ محذوف. قال الزجاج: أي متاعهم متاع قليل، أو هو مبتدأ خبره محذوف، أي: لهم متاع قليل {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يردّون إليه في الآخرة.
ثم خصّ محرمات اليهود بالذكر فقال: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا} أي: حرمنا عليهم خاصة دون غيرهم {مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} بقولنا: {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146]، الآية، و{مِن قَبْلُ} متعلق ب {قصصنا} أو ب {حرمنا} {وَمَا ظلمناهم} بذلك التحريم، بل جزيناهم ببغيهم {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث فعلوا أسباب ذلك فحرّمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم.
ثم بيّن سبحانه أن الافتراء على الله سبحانه ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة فقال: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة} أي: متلبسين بجهالة، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة النساء {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ} أي: من بعد عملهم للسوء، وفيه تأكيد، فإن {ثم} قد دلت على البعدية، فأكدها بزيادة ذكر البعدية {وَأَصْلَحُواْ} أعمالهم التي كان فيها فساد بالسوء الذي عملوه، ثم كرّر ذلك تأكيداً وتقريراً فقال: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي: من بعد التوبة {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} كثير الغفران، واسع الرحمة.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً} قال: يعني مكة.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية في الآية مثله. وزاد فقال: ألا ترى أنه قال: {وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ}.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: القرية التي قال الله {كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} هي يثرب.
قلت: ولا أدري أي دليل دله على هذا التعيين، ولا أيّ قرينة قامت له على ذلك، ومتى كفرت دار الهجرة ومسكن الأنصار بأنعم الله، وأيّ وقت أذاقها الله لباس الجوع والخوف، وهي التي تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد كما صحّ ذلك عن الصادق المصدوق. وصحّ عنه أيضاً أنه قال: «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون»
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب} الآية، قال: في البحيرة والسائبة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حلال وهذا حَرَامٌ} إلى آخر الآية، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا. قلت: صدق رحمه الله، فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتياً من أفتى بخلاف ما في كتاب الله أو في سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يقع كثيراً من المؤثرين للرأي المقدّمين له على الرواية، أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنّة كالمقلدة، وإنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتاويهم ويمنعوا من جهالاتهم، فإنهم أفتوا بغير علم من الله ولا هدى ولا كتاب منير، فضلوا وأضلوا، فهم ومن يستفتيهم كما قال القائل:
كبهيمة عمياء قاد زمامها *** أعمى على عوج الطريق الجائر
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: عسى رجل أن يقول: إن الله أمر بكذا، أو نهى عن كذا، فيقول الله عزّ وجلّ له: كذبت. أو يقول: إن الله حرّم كذا أو أحلّ كذا، فيقول الله له: كذبت.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} قال: في سورة الأنعام.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة مثله، وقال: حيث يقول: {وَعَلَى الذين هَادُواْ} إلى قوله: {وِإِنَّا لصادقون} [الأنعام: 146].


لما فرغ سبحانه من دفع شبه المشركين وإبطال مطاعنهم، وكان إبراهيم عليه السلام من الموحدين وهو قدوة كثير من النبيين ذكره الله في آخر هذه السورة فقال: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} قال ابن الأعرابيّ: يقال للرجل العالم: أمّة، والأمّة: الرجل الجامع للخير. قال الواحدي: قال أكثر أهل التفسير: أي معلماً للخير، وعلى هذا فمعنى كون إبراهيم كان أمّة أنه كان معلماً للخير أو جامعاً لخصال الخير أو عالماً بما علمه الله من الشرائع. وقيل: أمّة بمعنى مأموم أي: يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير كما قال سبحانه: {إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] والقانت: المطيع.
وقد تقدّم بيان معاني القنوت في البقرة. والحنيف: المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، وقد تقدّم بيانه في الأنعام. {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} بالله كما تزعمه كفار قريش أنه كان على دينهم الباطل.
{شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} التي أنعم الله بها عليه وإن كانت قليلة كما يدلّ عليه جمع القلة، فهو شاكر لما كثر منها بالأولى {اجتباه} أي: اختاره للنبوّة واختصه بها {وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} وهو ملة الإسلام ودين الحق.
{وءاتيناه فِى الدنيا حَسَنَةً} أي: خصلة حسنة أو حالة حسنة. وقيل: هي الولد الصالح. وقيل: الثناء الحسن. وقيل: النبوّة. وقيل: الصلاة منا عليه في التشهد. وقيل: هي أنه يتولاه جميع أهل الأديان. ولا مانع أن يكون ما آتاه الله شاملاً لذلك كله ولما عداه من خصال الخير {وَإِنَّهُ فِى الآخرة لَمِنَ الصالحين} حسبما وقع منه السؤال لربه حيث قال: {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين * واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الآخرين * واجعلنى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم} [الشعراء: 83- 85]. {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يا محمد مع علوّ درجتك وسموّ منزلتك، وكونك سيد ولد آدم {أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم} وأصل الملة اسم لما شرعه الله لعباده على لسان نبيّ من أنبيائه. وقيل: والمراد هنا اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم لملة إبراهيم في التوحيد والدعوة إليه.
وقال ابن جرير: في التبرّي من الأوثان، والتدّين بدين الإسلام. وقيل: في مناسك الحج. وقيل: في الأصول دون الفروع. وقيل: في جميع شريعته، إلاّ ما نسخ منها، وهذا هو الظاهر، وقد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء مع كونه سيدهم، فقال تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90]. وانتصاب {حَنِيفاً} على الحال من إبراهيم، وجاز مجيء الحال منه؛ لأن الملة كالجزء منه.
وقد تقرّر في علم النحو أن الحال من المضاف إليه جائز إذا كان يقتضي المضاف العمل في المضاف إليه، أو كان جزءاً منه أو كالجزء {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} وهو تكرير لما سبق للنكتة التي ذكرناها.
{إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} أي: إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه، أو إنما جعل فرض تعظيم السبت وترك الصيد فيه على الذين اختلفوا فيه، لا على غيرهم من الأمم.
وقد اختلف العلماء في كيفية الاختلاف الكائن بينهم في السبت، فقالت طائفة: إن موسى أمرهم بيوم الجمعة وعيّنه لهم، وأخبرهم بفضيلته على غيره، فخالفوه وقالوا: إن السبت أفضل، فقال الله له: دعهم وما اختاروا لأنفسهم. وقيل: إن الله سبحانه أمرهم بتعظيم يوم في الأسبوع، فاختلف اجتهادهم فيه، فعينت اليهود السبت، لأن الله سبحانه فرغ فيه من الخلق، وعينت النصارى يوم الأحد لأن الله بدأ فيه الخلق. فألزم الله كلا منهم ما أدّى إليه اجتهاده، وعيّن لهذه الأمة الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلاً منه ونعمة. ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شرائع إبراهيم، فأخبر الله سبحانه أنه إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه، ولم يجعله على إبراهيم ولا على غيره {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي: بين المختلفين فيه {يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فيجازي كلا فيه بما يستحقه ثواباً وعقاباً، كما وقع منه سبحانه من المسخ لطائفة منهم والتنجية لأخرى.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يدعو أمته إلى الإسلام فقال: {ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ} وحذف المفعول للتعميم، لكونه بعث إلى الناس كافة، وسبيل الله هو الإسلام {بالحكمة} أي: بالمقالة المحكمة الصحيحة. قيل: وهي الحجج القطعية المفيدة لليقين {والموعظة الحسنة} وهي المقالة المشتملة على الموعظة الحسنة التي يستحسنها السامع، وتكون في نفسها حسنة باعتبار انتفاع السامع بها. قيل: وهي الحجج الظنية الإقناعية الموجبة للتصديق بمقدّمات مقبولة. قيل: وليس للدعوة إلاّ هاتان الطريقتان، ولكن الداعي قد يحتاج مع الخصم الألدّ إلى استعمال المعارضة والمناقضة، ونحو ذلك من الجدل. ولهذا قال سبحانه: {وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ} أي: بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة. وإنما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقاً وغرضه صحيحاً، وكان خصمه مبطلاً وغرضه فاسداً {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} لما حثّ سبحانه على الدعوة بالطرق المذكورة، بيّن أن الرشد والهداية ليس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذلك إليه تعالى فقال: {إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} أي: هو العالم بمن يضلّ ومن يهتدّي {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} أي: بمن يبصر الحقّ فيقصده غير متعنت، وإنما شرع لك الدعوة، وأمرك بها قطعاً للمعذرة، وتتميماً للحجة، وإزاحة للشبهة، وليس عليك غير ذلك.
ثم لما كانت الدعوة تتضمن تكليف المدعوّين بالرجوع إلى الحق، فإن أبوا قوتلوا، أمر الداعي بأن يعدل في العقوبة فقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} أي: أردتم المعاقبة {فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} أي: بمثل ما فعل بكم، لا تجاوزوا ذلك.
قال ابن جرير: أنزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلاّ مثل ظلامته، لا يتعدّاها إلى غيرها. وهذا صواب؛ لأن الآية وإن قيل: إن لها سبباً خاصاً كما سيأتي، فالاعتبار بعموم اللفظ، وعمومه يؤدّي هذا المعنى الذي ذكره، وسمى سبحانه الفعل الأوّل الذي هو فعل البادئ بالشرّ عقوبة، مع أن العقوبة ليست إلاّ فعل الثاني، وهو المجازي للمشاكلة، وهي باب معروف وقع في كثير من الكتاب العزيز. ثم حثّ سبحانه على العفو فقال: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين} أي: لئن صبرتم عن المعاقبة بالمثل، فالصبر خير لكم من الانتصاف، ووضع {الصابرين} موضع الضمير، ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد.
وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية محكمة لأنها واردة في الصبر عن المعاقبة والثناء على الصابرين على العموم. وقيل: هي منسوخة بآيات القتال، ولا وجه لذلك.
ثم أمر الله سبحانه رسوله بالصبر فقال: {واصبر} على ما أصابك من صنوف الأذى {وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} أي: بتوفيقه وتثبيته. والاستثناء مفرغ من أعمّ الأشياء، أي: وما صبرك مصحوباً بشيء من الأشياء إلاّ بتوفيقه لك. وفيه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم. ثم نهاه عن الحزن فقال: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي: على الكافرين في إعراضهم عنك، أو لا تحزن على قتلى أحد، فإنهم قد أفضوا إلى رحمة الله. {وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ} قرأ الجمهور بفتح الضاد، وقرأ ابن كثير بكسرها. قال ابن السكيت: هما سواء، يعني: المفتوح والمكسور.
وقال الفراء: الضيق بالفتح: ما ضاق عنه صدرك، والضيق بالكسر: ما يكون في الذي يتسع، مثل الدار والثوب. وكذا قال الأخفش، وهو من الكلام المقلوب؛ لأن الضيق. وصف للإنسان يكون فيه ولا يكون الإنسان فيه، وكأنه أراد وصف الضيق بالعظم حتى صار كالشيء المحيط بالإنسان من جميع جوانبه، ومعنى {مما يمكرون}: من مكرهم لك فيما يستقبل من الزمان.
ثم ختم هذه السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا} أي: اتقوا المعاصي على اختلاف أنواعها {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} بتأدية الطاعات والقيام بما أمروا بها منها. وقيل: المعنى {إن الله مع الذين اتقوا} الزيادة في العقوبة، {والذين هم محسنون} في أصل الانتقام، فيكون الأوّل إشارة إلى قوله: {فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} والثاني إشارة إلى قوله: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين} وقيل {الذين اتقوا} إشارة إلى التعظيم لأمر الله {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} إشارة إلى الشفقة على عباد الله تعالى.
وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد، بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن مسعود: أنه سئل عن الأمة ما هي؟ فقال: الذي يعلم الناس الخير، قالوا: فما القانت؟ قال: الذي يطيع الله ورسوله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا لِلَّهِ} قال: كان على الإسلام ولم يكن في زمانه من قومه أحد على الإسلام غيره، فلذلك قال الله: {كَانَ أُمَّةً قانتا لِلَّهِ}.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {كَانَ أُمَّةً} قال: إماماً في الخير {قانتا} قال: مطيعاً.
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد تشهد له أمة، إلاّ قبل الله شهادتهم» والأمة: الرجل فما فوقه، إن الله يقول: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} والأمة الرجل فما فوقه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عمرو وقال: صلى جبريل بإبراهيم الظهر والعصر بعرفات، ثم وقف حتى إذا غابت الشمس دفع به، ثم صلى المغرب والعشاء، بجمع ثم صلى الفجر به كأسرع ما يصلي أحدكم من المسلمين، ثم وقف به حتى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين دفع، به، ثم رمى الجمرة، ثم ذبح، ثم حلق، ثم أفاض به إلى البيت فطاف به، فقال الله لنبيه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا}.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} قال: أراد الجمعة، فأخذوا السبت مكانها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق السدّي عن أبي مالك وسعيد بن جبير في الآية قال: باستحلالهم إياه. رأى موسى رجلاً يحمل حطباً يوم السبت، فضرب عنقه، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم. ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم، يعني: الجمعة، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس فيه لنا تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد».
وأخرج مسلم وغيره من حديث حذيفة نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ} قال: أعرض عن أذاهم إياك.
وأخرج الترمذي وحسنه، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة في الفوائد، وابن حبان، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب، قال: لما كان يوم أحد، أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة، فمثّلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة، أنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصبر ولا نعاقب، كفوا عن القوم إلاّ أربعة».
وأخرج ابن سعد، والبزار، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، وأبو نعيم في المعرفة، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حيث استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه، ونظر إليه قد مثل به، فقال: «رحمة الله عليك، فإنك كنت ما علمت وصولاً للرحم، فعولاً للخير، ولولا حزن من بعدك عليك، لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من أرواح شتى، أما والله لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك»، فنزل جبريل، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية، فكفّر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وأمسك عن الذي أراد وصبر.
وأخرج ابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية، قال: هذا حين أمر الله نبيه أن يقاتل من قاتله، ثم نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم فهذا منسوخ.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} قال: اتقوا فيما حرّم عليهم، وأحسنوا فيما افترض عليهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6